فصل: تفسير الآية رقم (47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (47):

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)}
لما كانت البغتة أن يقع الأمر من غير أن يشعر به وتظهر أماراته، قيل: {بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} وعن الحسن: ليلاً أو نهاراً. وقرئ: {بغتة أو جهرة} {هَلْ يُهْلَكُ} أي ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الظالمون. وقرئ: (هل يهلك) بفتح الياء.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)}
{مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} من آمن بهم وبما جاؤا به وأطاعهم، ومن كذبهم وعصاهم ولم يرسلهم ليتلهى بهم ويقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة {وَأَصْلَحَ} ما يجب عليه إصلاحه مما كلف.

.تفسير الآية رقم (49):

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)}
جعل العذاب ماساً، كأنه حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام. ومنه قولهم: لقيت منه الأمرّين والأقورين، حيث جمعوا جمع العقلاء. وقوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12].

.تفسير الآية رقم (50):

{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)}
أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله- وهي قسمة بين الخلق وإرزاقه، وعلم الغيب، وأني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلقه الله تعالى وأفضله وأقربه منزلة منه. أي لم أدّع إلهية ولا ملكية؛ لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزل الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكرونها. وإنما أدّعي ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوّة {هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} مثل للضالّ والمهتدي ويجوز أن يكون مثلاً لمن اتبع ما يوحي إليه. ومن لم يتبع. أو لمن ادّعى المستقيم وهو النبوة. والمحال وهو الإلهية أو الملكية {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} فلا تكونوا ضالين أشباه العميان. أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر. أو فتعلموا أن اتباع ما يوحى إليَّ مما لابد لي منه.
فإن قلت: {أَعْلَمُ الغيب} ما محله من الإعراب؟ قلت: النصب عطفاً على قوله: {عِندِى خَزَائِنُ الله}، لأنه من جملة المقول كأنه قال: لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)}
{وَأَنذِرْ بِهِ} الضمير راجع إلى قوله: و{وَمَا يُوحِى إِلَىَّ} و{الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ} إمّا قوم داخلون في الإسلام مقرّون بالبعث إلاّ أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما يوحي إليه {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يدخلون في زمرة المتقين من المسلمين. وأمّا أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث. وإمّا ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار، دون المتمردّين منهم، فأمر أن ينذر هؤلاء. وقوله: {لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} في موضع الحال من يحشروا، بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم، ولا بدّ من هذه الحال، لأنّ كلاًّ محشور، فالمخوف إنما هو الحشر على هذه الحال.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)}
ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم وأمره بتقريبهم وإكرامهم، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته ويواظبون عليها، والمراد بذكر الغداة والعشي: الدوام.
وقيل معناه: يصلون صلاة الصبح والعصر، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته. روي: أن رؤوساً من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت عنا هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين، وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم- وأرواح جبابهم- وكانت عليهم جباب من صوف جلسنا إليك وحادثناك، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال: نعم، طمعاً في إيمانهم.
وروي: أن عمر رضي الله عنه قال: لو فعلت حتى ننظر إلى ما يصيرون. قال فاكتب بذلك كتاباً، فدعا بصحيفة وبعليّ رضي الله عنه ليكتب. فنزلت. فرمى بالصحيفة، واعتذر عمر من مقالته.
قال سلمان وخباب: فينا نزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته. وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمّتي. معكم المحيا ومعكم الممات و{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْء} كقوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى} [الشعراء: 113] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فقال: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْء} بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله في أعمالهم على معنى: وإن كان الأمر على ما يقولون عند الله، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيمة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعدّاهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم، كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الزمر: 7].
فإن قلت: أما كفى قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْء} حتى ضم إليه {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْء}؟ قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة، وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنيّ في قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الزمر: 7] ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً، كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل: الضمير للمشركين. والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم، حتى يهمك إيمانهم ويحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} جواب النهي. ويجوز أن يكون عطفاً على {فَتَطْرُدَهُمْ} على وجه التسبيب، لأن كونه ظالماً مسبب عن طردهم. وقرئ: {بالغدوة والعشي}.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}
{وكذلك فَتَنَّا} ومثل ذلك الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أي ابتليناهم بهم. وذلك أنّ المشركين كانوا يقولون للمسلمين {أهؤلاء} الذين {مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا، ونحن المقدمون والرؤساء، وهم العبيد والفقراء، إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بينهم بالخير، ونحوه {أَءلْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} [القمر: 25]، {وَلَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]. ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك: خذلناهم فافتتنوا، حتى كان افتنانهم سبباً لهذا القول، لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلاّ مخذول مفتون {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان. وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)}
{فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} إما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم. وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم. وكذلك قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} من جملة ما يقول لهم ليسرهم ويبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم. وقرئ: (إنه) فإنه بالكسر على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ} وبالفتح على الإبدال من الرحمة {بِجَهَالَةٍ} في موضع الحال، أي عمله وهو جاهل. وفيه معنيان، أحدهما: أنه فاعل فعل الجهلة لأنّ من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظانّ فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير. ومنه قول الشاعر:
عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ عَشِيَّةَ زُرْتُهَا ** جَهِلْتَ عَلَى عَمْدٍ وَلَمْ تَكُ جَاهِلا

والثاني: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة. ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته. وقيل: إنها نزلت في عمر رضي الله عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوا ولم يعلم أنها مفسدة.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}
وقرئ: {ولتستبين} بالتاء والياء مع رفع السبيل لأنها تذكر وتؤنث. وبالتاء على خطاب الرسول مع نصب السبيل. يقال: استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته. والمعنى: ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين. من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه إمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به، فصلنا ذلك التفصيل.

.تفسير الآيات (56- 58):

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}
{نُهِيتُ} صرفت وزجرت، بما ركب فيّ من أدلة العقل، وبما أوتيت من أدلة السمع عن عبادة ما تعبدون {مِن دُونِ الله} وفيه استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة {قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} أي لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل، وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال، وتنبيه لكل من أراد إصابة الحق ومجانبة الباطل {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من الهدى في شيء يعني أنكم كذلك. ولما نفى أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله: {قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} ومعنى قوله: {إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَكَذَّبْتُم بِهِ}: إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه، على حجة واضحة وشاهد صدق {وَكَذَّبْتُم بِهِ} أنتم حيث أشركتم به غيره. ويقال: أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه، إذا كان ثابتاً عندك بدليل. ثم عقبه بما دل على استعظام تكذيبهم بالله وشدة غضبه عليهم لذلك وأنهم أحقاء بأن يغافصوا بالعذاب المستأصل فقال: {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32] {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} في تأخير عذابكم {يَقْضي الحق} أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل في أقسامه {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} أي القاضين. وقرئ: {يقص الحق} أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدّره، من قص أثره {لَّوْ أَنَّ عِندِى} أي في قدرتي وإمكاني {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب {لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي وامتعاضاً من تكذيبكم به. ولتخلصت منكم سريعاً {والله أَعْلَمُ بالظالمين} وبما يجب في الحكمة من كنه عقابهم.
وقيل {على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} على حجة من جهة ربي وهي القرآن {وَكَذَّبْتُم بِهِ} أي بالبينة. وذكر الضمير على تأويل البيان أو القرآن.
فإن قلت: بم انتصب الحق؟ قلت: بأنه صفة لمصدر يقضي أي يقضي القضاء الحق. ويجوز أن يكون مفعولاً به من قولهم: قضى الدرع إذا صنعها، أي يصنع الحق ويدبره. وفي قراءة عبد الله: {يقضى بالحق} فإن قلت: لم أسقطت الياء في الخط؟ قلت: إتباعاً للخط اللفظ، وسقوطها في اللفظ لالتقاء الساكنين.

.تفسير الآية رقم (59):

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}
جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة، لأنّ المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن المتوثق منها بالأغلاق والأقفال. ومن علم مفاتحها وكيف تفتح، توصل إليها، فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن. والمفاتح: جمع مفتح وهو المفتاح. وقرئ: {مفاتيح}، وقيل: هي جمع مفتح- بفتح الميم- وهو المخزن. {وَلاَ حَبَّةٍ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} عطف على ورقة وداخل في حكمها، كأنه قيل: وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلا يعلمه. وقوله: {إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ} كالتكرير لقوله: {إِلاَّ يَعْلَمُهَا} لأنّ معنى {إِلاَّ يَعْلَمُهَا} ومعنى {إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ} واحد. والكتاب المبين: علم الله تعالى، أو اللوح: وقرئ: {ولا حبةٌ ولا رطبٌ ولا يابسٌ} بالرفع. وفيه وجهان: أن يكون عطفاً على محل {مِن وَرَقَةٍ} وأن يكون رفعاً على الابتداء وخبره {إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ}: كقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلاّ في الدار.